سورة المائدة - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول إلزاماً لهم وقطعاً لشبهتهم، أي أتعبدون من دون الله متجاوزين إياه ما لا يملك لكم ضرّاً ولا نفعاً؟ بل هو عبد مأمور، وما جرى على يده من النفع، أو دفع من الضر، فهو بإقدار الله له وتمكينه منه، وأما هو فهو يعجز عن أن يملك لنفسه شيئاً من ذلك، فضلاً عن أن يملكه لغيره، ومن كان لا ينفع ولا يضر فكيف تتخذونه إلها وتعبدونه، وأي سبب يقتضي ذلك؟ والمراد هنا المسيح عليه السلام، وقدّم سبحانه الضرّ على النفع لأن دفع المفاسد أهمّ من جلب المصالح. {والله هُوَ السميع العليم} أي كيف تعبدون ما لا يملك لكم ضرّاً ولا نفعاً، والحال أن الله هو السميع العليم، ومن كان كذلك فهو القادر على الضرّ والنفع لإحاطته بكل مسموع ومعلوم، ومن جملة ذلك مضارّكم ومنافعكم.
قوله: {تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ} لما أبطل سبحانه جميع ما تعلقوا به من الشبه الباطلة، نهاهم عن الغلوّ في دينهم، وهو المجاوزة للحد كإثبات الإلهية لعيسى، كما يقوله النصارى، أو حطه عن مرتبته العلية، كما يقوله اليهود فإن كل ذلك من الغلوّ المذموم وسلوك طريقة الإفراط أو التفريط، واختيارهما على طريق الصواب. {وَغَيْرَ} منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي غلوّاً غير غلوّ الحق، وأما الغلوّ في الحق بإبلاغ كلية الجهد في البحث عنه، واستخراج حقائقه فليس بمذموم، وقيل إن النصب على الاستثناء المتصل؛ وقيل: على المنقطع {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} وهم أسلاف أهل الكتاب من طائفتي اليهود والنصارى، أي قبل البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً} من الناس {وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السبيل} أي عن قصدهم طريق محمد صلى الله عليه وسلم بعد البعثة، والمراد أن أسلافهم ضلوا من قبل البعثة وأضلوا كثيراً من الناس إذ ذاك، وضلوا من بعد البعثة، إما بأنفسهم، أو جعل ضلال من أضلوه ضلالاً لهم؛ لكونهم سنوا لهم ذلك ونهجوه لهم؛ وقيل المراد بالأول: كفرهم بما يقتضيه العقل، وبالثاني: كفرهم بما يقتضيه الشرع.
قوله: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بَنِى إسراءيل} أي لعنهم الله سبحانه: {على لِسَانِ دَاوُودُ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} أي في الزبور والإنجيل على لسان داود وعيسى بما فعلوه من المعاصي، كاعتدائهم في السبت، وكفرهم بعيسى. قوله: {ذلك بِمَا عَصَواْ} جملة مستأنفة جواب عن سؤال مقدر، والإشارة بذلك إلى اللعن، أي ذلك اللعن بسبب المعصية والاعتداء لا بسبب آخر، ثم بين سبحانه المعصية والاعتداء بقوله: {كَانُواْ لاَ يتناهون عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} فأسند الفعل إليهم لكونه فاعله من جملتهم وإن لم يفعلوه جميعاً.
والمعنى: أنهم كانوا لا ينهون العاصي عن معاودة معصية قد فعلها، أو تهيأ لفعلها، ويحتمل أن يكون وصفهم بأنهم قد فعلوا المنكر باعتبار حالة النزول لا حالة ترك الإنكار، وبيان العصيان والاعتداء بترك التناهي عن المنكر؛ لأن من أخلّ بواجب النهي عن المنكر فقد عصى الله سبحانه وتعدّى حدوده. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهمّ القواعد الإسلامية، وأجلّ الفرائض الشرعية، ولهذا كان تاركه شريكاً لفاعل المعصية، ومستحقاً لغضب الله وانتقامه كما وقع لأهل السبت، فإن الله سبحانه مسخ من لم يشاركهم في الفعل، ولكن ترك الإنكار عليهم، كما مسخ المعتدين فصاروا جميعاً قردة وخنازير {إِنَّ فِى ذلك لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] ثم إن الله سبحانه قال مقبحاً لعدم التناهي عن المنكر {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي من تركهم لإنكار ما يجب عليهم إنكاره {ترى كَثِيراً مّنْهُمْ} أي من اليهود مثل كعب بن الأشرف وأصحابه {يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ} أي المشركين وليسوا على دينهم {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} أي سولت وزينت، أو ما قدّموه لأنفسهم؛ ليردوا عليه يوم القيامة، والمخصوص بالذم هو {أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ} أي موجب سخط الله عليهم على حذف مضاف أو هو سخط الله عليهم على حذف المبتدأ. وقيل هو: أي أن سخط الله عليهم بدل من {ما} {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ} أي نبيهم {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ} من الكتاب {مَا اتَّخَذُوهُمْ} أي المشركين {أَوْلِيَاء} لأن الله سبحانه، ورسوله المرسل إليهم، وكتابه المنزل عليهم قد نهوهم عن ذلك {ولكن كَثِيراً مّنْهُمْ فاسقون} أي خارجون عن ولاية الله وعن الإيمان به وبرسوله وبكتابه.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في قوله: {لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ} يقول: لا تبتدعوا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: كانوا مما غلوا فيه أن دعوا لله صاحبة وولداً.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله: {وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السبيل} قال: يهود.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أوّل ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحلّ لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض»
ثم قال: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بَنِى إسراءيل على لِسَانِ دَاوُود} إلى قوله: {فاسقون} ثم قال: «كلا، والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذنّ على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً» وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً فلا نطول بذكرها.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بَنِى إسراءيل على لِسَانِ دَاوُود} يعني في الزبور {وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} يعني في الإنجيل.
وأخرج أبو عبيد، وعبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي مالك الغفاري في الآية قال: لعنوا على لسان داود فجعلوا قردة، وعلى لسان عيسى فجعلوا خنازير.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله.
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ، عن قتادة نحوه.
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس، عن أبي عبيدة ابن الجراح مرفوعاً: «قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أوّل النهار، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عبادهم فأمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعاً في آخر النهار، فهم الذين ذكر الله: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بَنِى إسراءيل} الآيات».
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس في قوله: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} قال: ما أمرتهم.
وأخرج ابن أبي حاتم والخرائطي في مساوئ الأخلاق، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان. وضعفه، عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر المسلمين إياكم والزنا، فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة؛ فأما التي في الدنيا: فذهاب البهاء، ودوام الفقر، وقصر العمر؛ وأما التي في الآخرة: فسخط الله، وسوء الحساب، والخلود في النار؛ ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ وَفِى العذاب هُمْ خالدون}» قال ابن كثير في تفسيره: هذا الحديث ضعيف على كل حال.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء} قال: المنافقون.


قوله: {لَتَجِدَنَّ} الخ هذه جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من تعداد مساوئ اليهود وهناتهم، ودخول لام القسم عليها يزيدها تأكيداً وتقريراً، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز. والمعنى في الآية: أن اليهود والمشركين لعنهم الله أشدّ جميع الناس عداوة للمؤمنين وأصلبهم في ذلك. وأن النصارى أقرب الناس مودّة للمؤمنين، واللام في {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} في الموضعين متعلقة بمحذوف وقع صفة لعداوة ومودّة، وقيل هو متعلق بعداوة ومودة؛ والإشارة بقوله: {ذلك} إلى كونهم أقرب مودّة، والباء في {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ} للسببية: أي ذلك بسبب أن منهم قسيسين، وهو جمع قسّ وقسيس قاله قطرب. والقسيس: العالم، وأصله من قسّ: إذا تتبع الشيء وطلبه. قال الراجز:
يصبحن عن قسّ الأذى غوافلا *** وتقسست أصواتهم بالليل تسمعتها
والقسّ: النميمة. والقسّ أيضاً: رئيس النصارى في الدين والعلم، وجمعه قسوس أيضاً، وكذلك القسيس: مثل الشرّ والشرّير، ويقال في جمع قسيس تكسيراً قساوسة بإبدال أحد السينين واواً، والأصل قساسة، فالمراد بالقسيسين في الآية: المتبعون للعلماء والعباد، وهو إما عجميّ خلطته العرب بكلامها، أو عربيّ، والرهبان: جمع راهب كركبان وراكب، والفعل رهب الله يرهبه: أي خافه. والرهبانية والترهب: التعبد في الصوامع. قال أبو عبيد: وقد يكون رهبان للواحد والجمع. قال الفراء: ويجمع رهبان إذا كان للمفرد رهبان ورهابين كقربان وقرابين.
وقد قال جرير في الجمع:
رهبان مدين لو رأوك ترهبوا ***
وقال الشاعر في استعمال رهبان مفرداً:
لو أبصرت رهبان دير في الجبل *** لانحدر الرهبان يسعى ونزل
ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم لا يستكبرون عن قول الحق، بل هم متواضعون، بخلاف اليهود فإنهم على ضدّ ذلك، وهذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول} معطوف على جملة {وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}. {تَفِيضُ مِنَ الدمع} أي: تمتلئ فتفيض، لأن الفيض لا يكون إلا بعد الامتلاء، جعل الأعين تفيض، والفائض: إنما هو الدمع قصداً للمبالغة كقولهم دمعت عينه. قال امرؤ القيس:
ففاضت دموع العين مني صبابة *** على النحر حتى بلّ دمعي محملي
قوله: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} من الأولى لابتداء الغاية، والثانية بيانية، أي كان ابتداء الفيض ناشئاً من معرفة الحق، ويجوز أن تكون الثانية تبعيضية، وقرئ: {تَرَى أَعْيُنَهُم} على البناء للمجهول. وقوله: {يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا} استئناف مسوق لجواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: فما حالهم عند سماع القرآن؟ فقال: {يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين} أي آمنا بهذا الكتاب النازل من عندك على محمد وبمن أنزلته عليه {فاكتبنا مع الشاهدين} على الناس يوم القيامة، من أمة محمد أو مع الشاهدين بأنه حق، أو مع الشاهدين بصدق محمد وأنه رسولك إلى الناس.
قوله: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله} كلام مستأنف، والاستفهام للاستبعاد {وَلَنَا} متعلق بمحذوف، و{لاَ نُؤْمِنُ} في محل نصب في الحال، والتقدير: أيّ شيء حصل لنا حال كوننا لا نؤمن بالله وبما جاءنا من الحق؟ والمعنى: أنهم استبعدوا انتفاء الإيمان منهم مع جود المقتضى له، وهو الطمع في إنعام الله، فالاستفهام والنفي متوجهان إلى القيد والمقيد جميعاً كقوله تعالى: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13]، والواو في {وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين} للحال أيضاً بتقدير مبتدأ: أي، أيّ شيء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في الدخول مع الصالحين؟ فالحال الأولى والثانية صاحبهما الضمير في {لَنَا} وعاملها الفعل المقدّر: أي حصل، ويجوز أن تكون الحال الثانية من الضمير في {نُؤْمِنُ} والتقدير: وما لنا نجمع بين ترك الإيمان وبين الطمع في صحبة الصالحين.
قوله: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ} الخ أثابهم على هذا القول مخلصين له معتقدين لمضمونه. قوله: {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أولئك أصحاب الجحيم} التكذيب بالآيات كفر، فهو من باب عطف الخاص على العام. والجحيم: النار الشديدة الإيقاد، ويقال جحم فلان النار: إذا شدّد إيقادها، ويقال أيضاً لعين الأسد: جحمة لشدّة اتقادها. قال الشاعر:
والحرب لا تبقى لجا *** حمها التحيل والمزاح
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد، في قوله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً} الآية قال هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما خلا يهوديّ بمسلم إلا همّ بقتله» وفي لفظ: «إلا حدّث نفسه بقتله» قال ابن كثير: وهو غريب جدّاً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال: ما ذكر الله به النصارى من خير فإنما يراد به النجاشي وأصحابه.
وأخرج أبو الشيخ عنه قال: هم ناس من الحبشة آمنوا إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين فذلك لهم.
وأخرج النسائي وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع}.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو نعيم، في الحلية والواحدي من طريق ابن شهاب قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعروة بن الزبير قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري وكتب معه كتاباً إلى النجاشي، فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه، وأرسل النجاشي إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر بن أبي طالب أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ عليهم سورة مريم، فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع، وهم الذين أنزل الله فيهم: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً} إلى قوله: {مّنَ الشاهدين}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ وابن مردويه، عن سعيد بن جبير في الآية قال: هم رسل النجاشي بإسلامه وإسلام قومه، كانوا سبعين رجلاً يختارهم من قومه، الخير فالخير، في الفقه والسنّ، وفي لفظ: بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلاً، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة يس، فبكوا حين سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق، فأنزل الله فيهم {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً}. الآية ونزلت هذه الآية فيهم أيضاً: {الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] إلى قوله: {أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ} [القصص: 54].
وأخرج عبد بن حميد، والطبراني، وأبو الشيخ وابن مردويه، عن ابن عباس نحوه بدون ذكر العدد.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي قال: بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر رجلاً، سبعة قسيسين وخمسة رهباناً، ينظرون إليه ويسألونه فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا، فأنزل الله فيهم: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول} الآية، والروايات في هذا الباب كثيرة، وهذا المقدار يكفي، فليس المراد إلا بيان سبب نزول الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {قِسّيسِينَ} قال: هم علماؤهم.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: القسيسون عبادهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.


الطيبات: هي المستلذات لما أحلّه الله لعباده، نهى الذين آمنوا عن أن يحرّموا على أنفسهم شيئاً منهم، إما لظنهم أن في ذلك طاعة لله وتقرّباً إليه، وأنه من الزهد في الدنيا فرفع النفس عن شهواتها، أو لقصد أن يحرّموا على أنفسهم شيئاً مما أحلّه لهم كما يقع من كثير من العوام من قولهم: حرام عليّ، وحرّمته على نفسي، ونحو ذلك من الألفاظ التي تدخل تحت هذا النهي القرآني. قال ابن جرير الطبري: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحلّ الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح، ولذلك ردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون.
فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبرّ إنما هو في فعل ما ندب الله عباده إليه، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسَنَّه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا كان ذلك كذلك، تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله، وآثر أكل الخشن من الطعام، وترك اللحم، وغيره حذراً من عارض الحاجة إلى النساء. قال: فإن ظن ظانّ أن الفضل في غير الذي قلنا لِما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة، فقد ظنّ خطأ، وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضرّ للجسم من المطاعم الردية، لأنها مفسدة لعقله، ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سبباً إلى طاعته.
قوله: {وَلاَ تَعْتَدُواْ} أي لا تعتدوا على الله بتحريم طيبات ما أحلّ الله لكم، أو لا تعتدوا فتحلوا ما حرّم الله عليكم أي تترخصوا فتحللوا حراماً كما نهيتم عن التشديد على أنفسكم بتحريم الحلال.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن من حرّم على نفسه شيئاً مما أحله الله له فلا يحرم عليه ولا يلزمه كفارة.
وقال أبو حنيفة وأحمد ومن تابعهما: إن من حرّم شيئاً صار محرّماً عليه، وإذا تناوله لزمته الكفارة، وهو خلاف ما في هذه الآية، وخلاف ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ولعله يأتي في سورة التحريم ما هو أبسط من هذا إن شاء الله. وقوله: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} تعليل لما قبله، وظاهره أن تحريم كل اعتداء: أي مجاوزة لما شرعه الله في كل أمر من الأمور {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} حال كونه {حلالا طَيّباً} أي غير محرّم ولا مستقذر، أو أكلا حلالاً طيباً، أو كلوا حلالاً طيباً مما رزقكم الله، ثم وصاهم الله سبحانه بالتقوى فقال: {واتقوا الله الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ}.
وقد أخرج الترمذي وحسّنه وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن عديّ في الكامل، والطبراني، وابن مردويه، عن ابن عباس، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء، وأخذتني شهوة، وإني حرّمت عليّ اللحم، فنزلت: {ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ}.
وقد روي من وجه آخر مرسلاً، وروي موقوفاً على ابن عباس.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عنه في الآية قال: نزلت في رهط من الصحابة قالوا: نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك فقالوا نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني» وقد ثبت نحو هذا في الصحيحين وغيرهما، من دون ذكر أن ذلك سبب نزول الآية.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود، في المراسيل، وابن جرير، عن أبي مالك أن هؤلاء الرهط هم عثمان بن مظعون وأصحابه. وفي الباب روايات كثيرة بهذا المعنى، وكثير منها مصرّح بأن ذلك سبب نزول الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله، وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله، فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظاراً له، فقال لامرأته: حبست ضيفي من أجلي هو حرام عليّ، فقالت امرأته: هو حرام عليّ فقال الضيف: هو حرام عليّ، فلما رأى ذلك وضع يده وقال: كلوا بسم الله، ثم ذهب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أصبت» فأنزل الله: {ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} وهذا أثر منقطع، ولكن في صحيح البخاري في قصة الصديق مع أضيافه ما هو شبيه بهذا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال: كنا عند عبد الله فجيء بضرع، فتنحى رجل، فقال له عبد الله: ادن، فقال: إني حرّمت أن آكله، فقال عبد الله: ادن فاطعم وكفر عن يمينك، وتلا هذه الآية.
وأخرجه أيضاً الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11